15 مايو 2024
15 مايو/أيار 2024
في الذكرى الـ76 للنكبة، تستعرض مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية —الحق، ومركز الميزان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان— جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة كشكل من أشكال العنف الاستعماري الذي ينفذه نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وكجزء من النكبة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
حاولت رانيا أن تحافظ على ثبات صوتها بينما كانت تضغط على زر التسجيل بهاتفها أثناء خروجها من منزلها في مدينة غزة باتجاه جنوب قطاع غزة، "لا أدري ما إذا كان هذا القرار صائباً"، قالت. "بدا وكأننا نعيش النكبة مرة أخرى. نفس المشاهد، الناس يسيرون، لكنهم لا يعرفون إلى أين يتجهون"، أضافت، متأثرة بشدة وهي تصف مشهدًا مألوفًا من الألم الذي ترسخ في الذاكرة الجماعية الفلسطينية.
كانت رانيا واحدة من عشرات الآلاف الفلسطينيين والفلسطينيات الذين نزحوا قسراً إلى المحافظات الجنوبية من قطاع غزة بعدما أمر جيش الاحتلال الإسرائيلي جميع سكان محافظة شمال غزة ومدينة غزة البالغ عددهم 1.1 مليون نسمة بإخلاء المنطقة في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وأظهرت صور ومقاطع فيديو للتهجير القسري للسكان حشوداً من الناس وهم يغادرون منازلهم سيرًا على الأقدام تحت القصف الإسرائيلي المتواصل، يحملون ما استطاعوا حمله من ممتلكات، دون دراية أين سينتهي بهم المطاف وما إذا كانوا سيتمكنون من العودة بعد ذلك. بدت المشاهد وكأنها صور تاريخية للتهجير والنزوح القسري للسكان الفلسطينيين خلال نكبة عام 1948، تم تلوينها وإحياؤها من جديد. إلا أن هذه الصور تم التقاطها في عامي 2023 و2024، تبين التهجير القسري للفلسطينيين/ات على نطاق واسع، مما دفع أكثر من 20 خبير مستقل في الأمم المتحدة إلى التحذير من حدوث "نكبة ثانية".
في الواقع، هذا القلق ليس دون مبرر، فقد دعا مسؤولون إسرائيليون إلى حملة إبادة جماعية ضد 2.3 مليون شخص في قطاع غزة، كتصريح وزير الزراعة الإسرائيلي آفي ديختر: "نحن الآن نشن حملة النكبة في غزة"، وأضاف: "من غير الممكن للجيش الإسرائيلي أن يدير الحرب بالطريقة التي يريدها داخل غزة، في حين تتحرك الجماهير بين الدبابات وبين الجنود، إنها نكبة غزة 2023، وهكذا ستنتهي". وأوضح أرييل كالنر، عضو الكنيست عن حزب الليكود، بقوله: "الآن، هدفنا واحد: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة عام 1948، نكبة في غزة ونكبة لكل من يجرؤ على الانضمام!". بينما أصاب المسؤولون الإسرائيليون في وصف أفعالهم بأنها تشكل نكبة، إلا أنهم لم يعترفوا بأنها جزء من النكبة المستمرة التي يرتكبها نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني منذ عام 1948.
النكبة المستمرة هي عملية متواصلة من العنف الاستعماري ضد الشعب الفلسطيني تحت نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني
النكبة، هو المصطلح الذي يستخدمه الفلسطينيات والفلسطينيون لوصف التهجير والنزوح القسري التاريخي الذي تعرضوا له خلال الفترة بين عامي 1947-1949، والذي نتج عنه إقامة دولة الاحتلال. إذ هجرت الميليشيات الصهيونية والجيش الإسرائيلي نحو 800,000 فلسطيني/ـة، أي ما يعادل حوالي 80% من السكان، بالقوة من منازلهم وأراضيهم، ودمرت 531 قرية فلسطينية، وقتلت أكثر من 15,000 فلسطيني/ـة.
لم يبق سوى نحو 150,000 فلسطيني/ة في أرض فلسطين الانتدابية بعد نكبة عام 1948، وكان ربعهم نازحين داخلياً. في حين كان الهدف الأساسي للمشروع الصهيوني هو إنشاء دولة إسرائيل بأغلبية يهودية في أرض فلسطين الانتدابية، والذي اعترف القادة الصهاينة أنه لن يكون ممكناً إلا باستخدام القوة، إلا أن إنشاء الدولة كان تتويجاً لمشروع حركة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وليس نهايته. كما أشار الباحث الفلسطيني فايز صايغ، "التوسع الجغرافي هو العنصر الثالث في مخطط الصهيونية [...] الهدف الأبدي للصهيونية كان وما زال فرض سيادة يهودية على كامل فلسطين (التي يطلق عليها الصهاينة اسم "أرض إسرائيل")، خالية تمامًا من العرب". في الواقع، هذا يعني أن المشروع الصهيوني مستمر مع استمرار القمع والتهجير القسري للشعب الفلسطيني وإحلال اليهود الإسرائيليين محلهم بهدف تحقيق المشروع الصهيوني.
منذ ذلك الحين وعلى مدى 76 عامًا، واصلت دولة الاحتلال إخضاع الشعب الفلسطيني لجميع أشكال العنف والقمع والاضطهاد من خلال مأسسة نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني والحفاظ عليه في إطار قوانين وسياسات وممارسات مختلفة تعزز مشروعها الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. ونتيجة لذلك، يتعرض الفلسطينيون والفلسطينيات حتى يومنا هذا للنزوح القسري المتواصل، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وإجبارهم على اللجوء والنفي، وحرمانهم من حقهم في العودة إلى منازلهم وأراضيهم، كما يتعرضون لعملية متواصلة من الهيمنة والتمييز العنصري الممأسس والاحتلال العسكري والضم ونقل السكان والاستعمار الاستيطاني.
التعبير عن هذه العملية بمصطلح "النكبة المستمرة" يعكس التجربة المستمرة للعنف الاستعماري ضد الشعب الفلسطيني. يعتبر هذا المصطلح، عند النظر إليه من منظور الاستعمار الاستيطاني، أن النكبة، التي بلغت ذروتها في عام 1948، ليست مجرد شرط مسبق لإنشاء دولة الاحتلال أو نتيجة لطموحات الصهيونية الأولى، بل تتجاوز النكبة حدثاً فردياً؛ إذ تجسد عملية متواصلة تستمر حتى يومنا هذا، وتتجلى في إخضاع الشعب الفلسطيني بشكل مستمر لجميع أشكال العنف الاستعماري الضرورية لاستمرار مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. مع كل فعل غير قانوني يتمثل بالنقل القسري، والقتل، والاعتقال، والاستيلاء، والترحيل، وغيرها من الأفعال التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية، يتم تعزيز النكبة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، والتي تشكل الحاضنة لجميع أشكال العنف الاستعماري الذي يمارسه النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، منذ إنشاء دولة الاحتلال وبما يشمل الإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
وفي لحظة تاريخية، اعترفت دولة جنوب إفريقيا بـ "النكبة المستمرة" للشعب الفلسطيني في بيانها الافتتاحي أمام محكمة العدل الدولية في قضيتها ضد دولة الاحتلال بتهمة الإبادة الجماعية. وخلال جلسة الاستماع المنعقدة بتاريخ 11 يناير/كانون الثاني 2024 للمطالبة بفرض تدابير مؤقتة على دولة الاحتلال، أكد السيد فوسيموزي مادونسيلا على اعتراف دولة جنوب إفريقيا بـ "النكبة المستمرة للشعب الفلسطيني منذ استعمار إسرائيل في عام 1948"، وأن النكبة "نفت حقوق الشعب الفلسطيني المعترف بها دولياً وغير القابلة للتصرف، مثل حقهم في تقرير المصير، وحقهم المعترف به دولياً في العودة كلاجئين ولاجئات إلى قراهم ومدنهم، إلى ما يُعرف الآن بدولة إسرائيل"؛ وأشار خطاب دولة جنوب إفريقيا إلى "النظام الممأسس لإسرائيل الذي يعتمد على القوانين والسياسات والممارسات التمييزية المصممة لتحقيق الهيمنة الكاملة وإخضاع الشعب الفلسطيني، على جانبي الخط الأخضر، للفصل العنصري". يعد بيان دولة جنوب إفريقيا في جوهره إعلانًا صريحًا للأسباب الجذرية التي تدفع لاستمرار نكبة الشعب الفلسطيني.
إبادة جماعية واستعمار استيطاني صهيوني: تدمير واستبدال الشعب الفلسطيني بأغلبية يهودية
تعمل الحركة الصهيونية، كغيرها من المشاريع الاستعمارية الاستيطانية، على القضاء على السكان الأصليين من خلال تهجيرهم وطردهم واستبدالهم. ويعتمد القضاء على السكان الأصليين على سلسلة من الممارسات تتمثل في القتل والنقل القسري ونزع الملكية، ويعززها حرمان السكان المستمر من حقهم في العودة إلى أراضي أجدادهم، مما يجعل من الاستعمار الاستيطاني "بنية وليس حدثاً". كما تقوم الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية بارتكاب أشكال متعددة من العنف الاستعماري لتحقيق أهدافها والنهوض بها، ومن بين هذه الأشكال الإبادة الجماعية التي تُعد ذروة العنف الاستعماري؛ إذ تهدف إلى تدمير جماعة كليًا أو جزئيًا بناءً على العرق أو الدين أو الإثنية أو القومية. وتُعد الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة لليوم الـ222 أحدث مثال على ارتكاب نظام الاستعمار الاستيطاني جريمة إبادة جماعية.
لا تعني الإبادة الجماعية القتل الجماعي الفوري للجماعة فحسب، بل تعني أيضًا تدمير العناصر الأساسية لحياة الجماعة، بما في ذلك العناصر الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، أو السياسية التي تشكل الجماعة. فكما أوضح رافائيل ليمكين، القانوني البولندي الذي صاغ مصطلح "الإبادة الجماعية": "لا تعني الإبادة الجماعية بالضرورة التدمير الفوري لأمة ما [...] بل يقصد بها الإِشارة إلى خطة منسقة تضم مختلف الإجراءات التي تهدف إلى تدمير العناصر الأساسية لحياة الجماعات القومية، بهدف القضاء على الجماعات نفسها". يصوّر هذا المفهوم بشكل صحيح الإبادة الجماعية كما هو مبين في الأعمال الإبادية المختلفة المدرجة في المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية، حيث يركز على العمليات التدريجية لإبادة الجماعة بدلاً من التركيز على التدمير الفوري.
قامت الحركة الصهيونية المبنية على أسس امبريالية استعمارية بتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته وارتكاب أشكال مختلفة من العنف الاستعماري. وفي حين بدأ تحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بالقتل الجماعي والطرد القسري للشعب الفلسطيني على نطاق واسع من دياره وأراضيه وتجريد السكان من ممتلكاتهم خلال النكبة عام 1948، لا تزال السياسات والممارسات الصهيونية للقضاء على الشعب الفلسطيني مستمرة، سواء داخل فلسطين الانتدابية أو في المنفى والشتات. ويقوم النظام الصهيوني بالقضاء على السكان الأصليين الفلسطينيين بشكل ممأسس ومنهجي من خلال جملة من الأمور منها: رفض حق عودة اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين والمهجرين داخلياً، بالرغم من منح جميع اليهود هذا الحق؛ وشرذمة الشعب الفلسطيني إلى أجزاء جغرافية، وقانونية، وسياسية، وإدارية منفصلة؛ وفرض نظام تخطيط تمييزي، وتوسيع المستوطنات مع ترسيخ بيئات قسرية لطرد الفلسطينيين بشكل نهائي من أراضيهم؛ وقمع الشعب الفلسطيني للسيطرة والهيمنة عليه. وفي الآونة الأخيرة، تسعى دولة الاحتلال إلى تحقيق إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لتعزيز مشروعها الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، حيث يُترك الفلسطينيون بين خيارين: الموت أو التهجير القسري من أراضيهم، من أجل استبدالهم بمستوطنين استعماريين إسرائيليين.
مخطط تهجير الشعب الفلسطيني بشكل دائم
على غرار ما حدث عام 1948 عندما قامت الميليشيات الصهيونية بترهيب الفلسطينيين لإجبارهم على الفرار، يعمل جيش الاحتلال الإسرائيلي على خلق حالة من الذعر والخوف لإجبار الفلسطينيين/ات على الفرار من المناطق الشمالية لقطاع غزة إلى الجنوب، بل ودفع سكان غزة إلى خارج الحدود نحو مصر. وتشمل هذه الاستراتيجية قطع الإنترنت والكهرباء والمواد التي لا غنى عنها لبقاء المدنيين على قيد الحياة وإعاقة دخول المساعدات الإنسانية وإصدار أوامر للمدنيين بالإخلاء من خلال منشورات لا ترقى إلى مستوى التحذيرات الفعالة، وتهديد من لا يخلي باعتباره ”إرهابي“ - كل ذلك في الوقت الذي يقصف فيه الجيش الإسرائيلي كل مكان دون تمييز أو توقف.
ومع تزايد إصدار ونشر أوامر الإخلاء منذ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والهجمات المتواصلة والواسعة النطاق والمنهجية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين والبنية التحتية المدنية بلا هوادة، فإن التهجير القسري للفلسطينيين من منازلهم قد يتجلى بالضرورة كواقع دائم، إذ أدى حجم الدمار الذي لحق بغزة إلى جعلها غير صالحة للسكن إلى حد كبير دون وجود أي مكان آمن للجوء إليه. وكما أشار المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان للنازحين داخليًا، ”تسعى إسرائيل إلى تغيير تركيبة سكان غزة بشكل دائم [...]. وقد هدمت مساكن غزة وبنيتها التحتية المدنية عن بكرة أبيها، مما يحبط أي احتمالات واقعية لعودة النازحين من غزة إلى ديارهم، ويكرر تاريخاً طويلاً من التهجير القسري الجماعي للفلسطينيين من قبل إسرائيل".
طوال حملة الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال، تجلّت النية الإسرائيلية في تهجير الفلسطينيين/ات من غزة بشكل نهائي وإعادة إقامة مستوطنات استعمارية إسرائيلية على أنقاض الدمار الذي خلفته بشكل أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. حيث تكشف وثيقة صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية تم تسريبها في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن الحديث عن ”نكبة غزة 2023“ لا يقتصر على مجرد خطابات سياسية، بل هو مخطط ”اليوم التالي“ التي تروج له إسرائيل للقضاء على سكان غزة كخيار ”من شأنه أن يحقق نتائج إيجابية طويلة الأمد“. وتنطوي هذه الخطة على نقل سكان غزة قسراً إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، وتقترح أن تستقبل دول أخرى النازحات والنازحين الفلسطينيين. كما تقترح الخطة إنشاء منطقة عازلة بعرض عدة كيلومترات داخل مصر لمنع عودة الفلسطينيين. وقد أيّد السياسيون الإسرائيليون بشكل علني جوانب من هذه الخطة، داعين الدول الغربية إلى ”الترحيب بلاجئي غزة“.
فعلى سبيل المثال، روّج إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، لإعادة توطين الفلسطينيين من غزة في دول أخرى حول العالم باعتباره ”الحل للحرب الحالية“ ودعا إلى ”احتلال غزة والبقاء فيها“. كما نشطت المنظمات الاستيطانية في الترويج لإعادة توطين غزة تحت شعار ”قاتلوا. حرروا. استوطنوا“. وقد أعرب جنود الاحتلال الإسرائيلي المنتشرين في غزة عن نوايا مماثلة. حتى بعد أن خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن دولة الاحتلال ترتكب إبادةً جماعية بحق الفلسطينيين/ات في غزة، وأمرت دولة الاحتلال باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لوقف ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية فورًا، واصل العديد من كبار المسؤولين الإسرائيليين التعبير عن دعمهم لتهجير الفلسطينيين وطردهم من غزة. ففي يوم 28 كانون الثاني/يناير 2024، حضر المستوطنون الإسرائيليون إلى جانب عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم 12 وزيرًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي وحزب الليكود الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى بن غفير ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، مؤتمراً تحت عنوان ”العودة إلى غزة“، داعين من خلاله إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزة.
يهدد الشروع في الاجتياح البري في 6 أيار/مايو 2024 لمنطقة رفح، أقصى جنوب قطاع غزة والتي أعلنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ”منطقة آمنة“ من قبله، والتي تأوي ما لا يقل عن خمسة أضعاف سكانها، ومطالبة الفلسطينيين/ات بإخلاء شرق رفح، بالنقل الجماعي القسري المتكرر لأكثر من مليون فلسطيني يحتمون حاليًا في رفح، مع احتمالية ترحيلهم الجماعي إلى مصر. إن مخطط اجتياح رفح ليس بجديد، بل كان قيد الإعداد منذ ما قبل تكثيف الهجمات الأخيرة لهذا الشهر، عندما أمر نتنياهو جيش الاحتلال الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية بتقديم خطة إلى المجلس الوزاري المصغر ”لإخلاء السكان“ من رفح. كما وترد تقارير تفيد بأن الجيش الإسرائيلي قد اشترى آلاف الخيام لإيواء الأشخاص الذين سيتم تهجيرهم نتيجة الاجتياح البري لرفح. وهذا أمر مقلق للغاية نظراً إلى النوايا المعلنة للعديد من المسؤولين الإسرائيليين بإعادة استيطان قطاع غزة. إن حملة الإبادة الجماعية التي تقوم بها دولة الاحتلال هي بمثابة عملية لإفراغ غزة من سكانها الذين يشكل اللاجئون غالبيتهم وتدمير الحياة الفلسطينية فيها. وعلى الرغم من التصريحات التي تشير إلى عكس ذلك، فإن الحقائق على الأرض تتحدث بصوت عالٍ عن خطة لتكرار أهوال النكبة.
الإبادة الجماعية المستمرة في غزة: عنف استعماري متصاعد بحق الشعب الفلسطيني
لا يمكن اعتبار عنف المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني واحد من حيث شدته خلال المراحل التاريخية المختلفة، بل هو متفاوت في حدته. بينما نستذكر المظاهر الأكثر دموية التي يمارسها النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني منذ النكبة، لا ينبغي أن يُساء فهم الفترات التي تبدو ”أقل عنفًا“ على أنها توقف لآليات المشروع وعنفه، بل هي دلالة على استمرار القمع بوتيرة أبطأ. وهذا يتماشى مع طبيعة حالات الاحتلال، حيث قد تهدأ الأعمال العدائية ثم تُستأنف ولكن الإدارة العسكرية وقمع الشعب المحتل هي آليات وسياسات مستمرة دون هوادة. فعلى سبيل المثال، أوجدت السياسات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بيئة قسرية لتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين ببطء، مع حرمانهم من حق العودة، وإحلال المستوطنين اليهود الإسرائيليين محلهم. ويشمل هذا التهجير القسري لـ 430,000 فلسطيني إبان نكسة 1967، والتهجير القسري لأكثر من 14,643 فلسطينيًا من شرقي القدس المحتلة من خلال إلغاء إقامتهم، والتهجير القسري لـ 14,000 فلسطيني/ـة، منذ العام 2009 على الأقل، نتيجة سياسة الهدم الإداري التي تنتهجها دولة الاحتلال بحجة عدم وجود تراخيص بناء، كجزء من نظام التخطيط وتقسيم المناطق العنصري.
أخضعت دولة الاحتلال الشعب الفلسطيني في غزة لأشكال مختلفة من العنف الاستعماري الاستيطاني على مدى عقود، تجلت في جملة من السياسات والممارسات، من بينها: محاصرة 2.3 مليون شخص في أكبر سجن مفتوح في العالم لأكثر من 17 عامًا من الحصار والإغلاق غير القانوني، وحرمانهم من جملة من الحقوق الأساسية وخلق ظروف معيشية قاسية أدت إلى تآكل المقومات الأساسية للفلسطينيين/ات في غزة كجماعة، وشن سلسلة من الهجمات العسكرية، وغيرها من السياسات الرامية إلى خلخلة النسيج الاجتماعي وتغيير التركيبة السكانية في غزة.
ومع ذلك، ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، صعّدت دولة الاحتلال من وتيرة عنفها الاستعماري من خلال تنفيذ حملة عسكرية من الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وهو ما يشكل ذروة عنفها الاستعماري الاستيطاني. عند ارتكاب أفعال تتمثل في قتل الفلسطينيين/ات في غزة على نطاق واسع؛ أو التسبب بأضرار جسدية أو عقلية جسيمة، مثل النقل القسري الجماعي للسكان المدنيين؛ أو فرض ظروف معيشية تهدف إلى الإهلاك الفعلي للفلسطينيين/ات كجماعة، مثل منع الماء والغذاء والكهرباء والوقود والإمدادات الطبية وتدهور الظروف الصحية، بما في ذلك انتشار العدوى والأمراض في الملاجئ المكتظة؛ أو فرض تدابير تهدف إلى منع الإنجاب داخل الجماعة، مثل الإجبار على الولادة المبكرة أو ولادة الجنين ميتاً أو استئصال الرحم أو الولادة بدون تخدير، وعندما ترتكب هذه الأفعال بنية التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة، حينها ترقى هذه الأفعال لجريمة الإبادة الجماعية.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى 12 أيار/مايو 2024، أسفرت حملة الإبادة الجماعية في غزة عن استشهاد ما لا يقل عن 35,091 فلسطيني/ـة، 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، وإصابة 78,827 آخرين بجروح، ولا يزال نحو 10,000 في عداد المفقودين أو تحت الأنقاض وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية. في الأيام الـ 48 الأولى وحدها، قتلت دولة الاحتلال أكثر من 15,000 فلسطينياً وفلسطينية، وهو نفس عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم الميليشيات الصهيونية والجيش الإسرائيلي بين عامي 1947 و1949. بالإضافة إلى ذلك، أدى العدوان الإسرائيلي إلى تدمير أو تضرّر أكثر من 60 في المئة من جميع الوحدات السكنية في غزة، وتهجير داخلي لحوالي 1.7 مليون شخص، أي حوالي 75 في المئة من السكان، مع الإشارة إلى احتمالية تصاعد هذا العدد مع اجتياح رفح وتجدد الهجوم البري في أنحاء مختلفة من شمال غزة، وتقييد ومنع دخول المساعدات الإنسانية مما أدى إلى مجاعة شاملة في شمال غزة ”تزحف طريقها جنوباً“. لهذه الأسباب، يعد الدمار الذي خلفته دولة الاحتلال في غزة نتيجة الإبادة الجماعية من بين أكثر الحروب دماراً في التاريخ الحديث. علاوة على ذلك، جعلت الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة من الجيل القادم من الفلسطينيين/ات هدفاً، والذين يشكلون نصف سكان غزة تقريبًا، إذ قتلت أكثر من 14,000 طفل/ـة، أي أكثر من جميع النزاعات الأخرى حول العالم في كل عام منذ عام 2019 مجتمعة، جاعلة من غزة ”مقبرة للأطفال“. ومع مرور أكثر من سبعة أشهر من الإبادة الجماعية ومنع المساعدات الإنسانية وانهيار النظام الصحي، يموت الأطفال من الجوع ويعانون من سوء التغذية، الأمر الذي قد تكون له آثار تستمر مدى الحياة.
لم يقتصر القمع الإسرائيلي على غزة فحسب، بل طالت أعمال العنف الاستعمارية جميع أنحاء فلسطين، من بينها القتل، وهدم المنازل، والاعتقالات الجماعية، والتعذيب، والتهجير القسري، وتقييد الحركة، والعقاب الجماعي، والهجمات العسكرية العدوانية على البلدات ومخيمات اللاجئين. ووفقًا لتوثيقنا منذ 7 تشرين الأول 2023 وحتى 13 أيار 2024، قتلت قوات الاحتلال والمستوطنون الإسرائيليون 484 فلسطينيًا/ـة، من بينهم 121 طفل/ـة في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس، من بينهم 13 شهيدا على يد مستوطنين وثمانية لا يزال من غير المعروف ما إذا كان الجناة مستوطنين أو جنودًا. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ 7 تشرين الأول 2023 وحتى 8 أيار 2024، هدمت وأضرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بـ 390 منشأة سكنية فلسطينية، مما أدى إلى تهجير 1,310 فلسطينيا/ـة، 43 في المائة منهم من الأطفال و25 في المائة من النساء. وفي الوقت نفسه، سُجِّل ما لا يقلّ عن 829 هجومًا شنّه المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين/ات في الضفة الغربية، مما أسفر عن مقتل وجرح فلسطينيين وإلحاق الأضرار بممتلكاتهم، وتهجير 1,330 فلسطينيًا، من بينهم 643 طفلًا. وعلاوة على ذلك، تحتجز دولة الاحتلال أكثر من 9,500 أسير ومعتقل فلسطيني حتى تاريخ 17 نيسان/أبريل 2024، اعتقلتهم خلال مداهمتها شبه اليومية لمختلف أنحاء الضفة الغربية بما فيها القدس، من بينهم 200 طفل و80 امرأة و3660 معتقلًا إداريًا، يخضعون لإجراءات عقابية. كما وتم توثيق 16 حالة وفاة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و22 نيسان/أبريل 2024 في السجون الإسرائيلية نتيجة الإهمال الطبي أو التعذيب المتصاعد بحق الأسرى والمعتقلين. وتجدر الإشارة إلى أنه بتاريخ 2 أيار 2024، تم الإعلان عن استشهاد الطبيب عدنان البرش وإسماعيل خضر في سجون الاحتلال، مما يرفع العدد الإجمالي إلى 18 شهيداً، مع العلم بأن العدد قد يفوق بكثير الحالات الموثقة. وفي الوقت نفسه، لا يزال الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية داخل الخط الأخضر يواجهون الاعتقالات والاضطهاد والإجراءات العقابية بسبب تعبيرهم عن دعمهم لأبناء شعبهم في غزة.
الخاتمة: النكبة المستمرة والعودة المستمرة
بينما نحيي الذكرى السادسة والسبعين للنكبة المستمرة، نؤكد من جديد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعودة إلى أراضيه وقراه التي اقتلع منها وعلى حقه في السعي لتحقيق العدالة والتحرر من براثن الاستعمار والتمييز العنصري والاحتلال غير الشرعي. وبعد مرور سبعة عقود من الزمن، لا تزال النكبة تتوارثها الأجيال الفلسطينية جيلاً بعد جيل كرمز للحرمان من الحقوق ونضال الشعب نحو نيل حريته وتحصيل حقوقه. وعلى الرغم من الجهود المتضافرة التي تبذلها دولة الاحتلال لقمع الذاكرة الجمعية الفلسطينية للنكبة وحل قضية اللاجئين، يؤكد المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة أن المشاركة الفعّالة في إحياء ذكرى النكبة لا تزال أقوى بكثير بين الجيل الثالث من المهجرين والمهجرات الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بالمقارنة مع الجيلين الأول والثاني، مؤكداً على أن التزامهم نابع من شعور حقيقي بالظلم التاريخي الذي لا يزال مستمرًا. فعلى سبيل المثال، أثبتت هبة الكرامة التي اندلعت في أيار 2021 على أن الفلسطينيين والفلسطينيات لا يتذكرون النكبة فحسب، بل لا يزالون يعيشونها ويرفضون الخضوع للظلم ويتحدون شرذمة الاستعمار الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، مؤكدين على فاعليتهم وسعيهم الثابت وراء تحصيل حقهم في تقرير المصير، ومشدّدين على أن السعي من أجل العدالة ضد الظلم المتجذر بحق الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يُنسى ببساطة بالعنف والقمع الممارس بحقهم.
بناء على ما سبق، نفيد بضرورة تحليل الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية السابقة والحاضرة والمستقبلية في إطار النكبة المستمرة، بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية والفصل العنصري والاضطهاد. إذ تستهدف دولة الاحتلال بموجب هذه الجرائم الفلسطينيين والفلسطينيات وتحرمهم من حقوقهم الأساسية على أساس هويتهم كشعب وكجماعة، سواء لقمعهم وفرض الهيمنة عليهم أو لتهجيرهم من مناطق جغرافية معينة أو لتدميرهم كليًا أو جزئيًا. وتحديداً في قطاع غزة، يشكل الفلسطينيون نسبة كبيرة من الشعب الفلسطيني وتقوم دولة الاحتلال باستهدافهم على أساس هويتهم؛ أي لكونهم جزء من الشعب الفلسطيني، مع التشديد على كون الغالبية العظمى من الفلسطينيين/ات في غزة، أي حوالي 70 في المائة منهم من اللاجئين نتيجة النكبة عام 1948، محرومون من حقهم في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم، والتي غالبًا ما تكون على بعد بضعة كيلومترات فقط من حدود القطاع المحاصر. إن حملة الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال ضد غزة هي أحد أحدث فصول النكبة المستمرة.
على مدار أكثر من سبعة عقود، حُرم الفلسطينيين والفلسطينيات من العدالة والإنصاف من الظلم الذي لا يزال يلحق بهم. ويعود السبب في ذلك إلى سماح المجتمع الدولي الدائم لدولة الاحتلال بالإفلات من العقاب والذي بدوره يشجعها على مواصلة مشروعها الاستعماري الاستيطاني الذي يتجلى في النكبة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني. لذلك، من الضروري أن يتخلّى المجتمع الدولي عن النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها ”صراع“ بين طرفين، مما يساوي بين المستعمِر والمستعمَر، وأن يقوم بدلاً عن ذلك بمحاسبة الجناة الإسرائيليين على جرائمهم المستمرة منذ عقود. وإذ نعلم أنه قد يستغرق تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني سنوات طويلة، إلا أن العدالة تبدأ بإعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحقه في العودة، فطالما أن النكبة مستمرة، كذلك يبقى حقنا في العودة مستمراً.
عاش الشعب الفلسطيني ببناته وأبنائه حراً معلياً صوته ضد الظلم أينما تواجد.